في خضم الانهيار المؤسساتي المتسارع، يعيش لبنان اليوم أزمة وجود لا أزمة حكم فحسب. دولة مفككة، مجلس نيابي مشلول، نظام سياسي رهينة سلاح غير شرعي، وتخاذل داخلي بلغ حدّ التخلي عن أي مسؤولية وطنية في لحظة إقليمية هي الأخطر على الإطلاق.
رفض تنفيذ القرارات الدولية: طريق إلى العزلة والانهيار
منذ سنوات، يراكم لبنان سجلاً ثقيلاً في رفض تنفيذ القرارات الدولية، لا سيما تلك التي تطالب بإنهاء مظاهر التسلح خارج شرعية الدولة (كالقرار 1559 و1701)، فيما المجتمع الدولي يُعيد تكرار رسائله بهدوء، قبل أن تنقلب التحذيرات إلى تهديدات صريحة.
إحدى أبرز هذه الإشارات صدرت عن الموفد الأميركي توم باراك، الذي لمح بشكل واضح إلى أن استمرار غياب القرار اللبناني وتسليم الدولة إلى سلاح حزب الله قد يجعل لبنان دولة “منسية”، أي خارج معادلات الدعم والاهتمام. هذا التلويح بالإهمال الدولي ليس تهويلاً ديبلوماسياً، بل إنذارٌ بأن العالم لن يظل ينتظر توافقاً وهمياً بين أطراف لا تريد الاتفاق أصلاً.
وهذا التعنت في رفض تسليم السلاح الشرعي للدولة لا يهدد إسرائيل فقط، كما يظن البعض، بل يهدد لبنان أولاً، لأنه يستدرج عداءً دولياً وتهميشاً عربياً، ويفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة قد تتجاوز حتى الحرب.
سداد اليوروبوند… على طريقة “التشبيح السياسي”
أزمة اليوروبوند عام 2020 كانت شاهداً على عقلية “التشبيح” التي باتت تُدار بها الدولة. بدلاً من التفاوض المسؤول والشفاف مع الدائنين، لجأت الدولة، بقيادة منظومة الممانعة، إلى تنصل فجّ من السداد، متذرعة بأزمة السيولة، دون أي خطة إصلاحية أو نية جدية للخروج من المأزق.
ذلك اليوم، شَهِد اللبنانيون كيف يمكن لنفس العقل الذي يرفض تسليم السلاح غير الشرعي أن يرفض تسديد الالتزامات الدولية. كلاهما وجهان لعملة واحدة: عقلية الفرض، لا الشراكة؛ الهيمنة، لا السيادة.
مجلس نيابي تحت البلطجة… لا الرقابة
في ظل هذا المشهد، تحول المجلس النيابي إلى شاهد زور على انهيار الدولة. ومنذ عام 1992، ما زال الرئيس نبيه بري يترأسه، مجسداً بذلك صورة “الزعيم الأبدي”، حيث لا تداول سلطة، ولا استقلالية قرار.
تحت عباءة الثنائي الشيعي، يُفرَض جدول الأعمال النيابي من فوق، وتُقمع المحاولات التشريعية الجادة، وتُجهض كل مبادرة للمساءلة أو الرقابة، وكأن المجلس وُجد ليكون واجهة ديموقراطية لمنظومة الأمر الواقع.
الممارسات التي تُمارس بحق النواب وصلت إلى بلطجة سياسية علنية: إغلاق المجلس لفترات طويلة، منع اللجان من الاجتماع، وفرض “تشريع الضرورة” بما يتوافق فقط مع أجندة محور الممانعة.
النواب: عجز، تواطؤ، أو خضوع
في هذا السياق، لا يمكن إعفاء عدد كبير من النواب من المسؤولية. فالتلكؤ، التردد، العجز عن إنتاج مبادرات تشريعية إصلاحية، أو الخضوع للسلطة الفعلية داخل البرلمان، كلها عوامل ساهمت في تعطيل المسار الدستوري.
البرلمان اليوم عاجز عن انتخاب رئيس للجمهورية منذ أكثر من عامين، وعاجز عن محاسبة الحكومة، أو حتى وضع قانون انتخابي عادل. أما الأخطر، فهو عجزه عن تحرير قراره من سطوة الثنائية الشيعية التي فرضت مجدداً هيمنتها بعد انتخابات 2022، إما عبر الترغيب السياسي أو الترهيب الميداني.
لبنان على مفترق طرق
الواضح أن المجتمع الدولي لم يعد يحتمل لبنان كملف دائم الانفجار. الرسائل أصبحت أوضح من أي وقت مضى: إمّا قرار لبناني مستقل، أو نسيان كامل. وفي ظل غياب الإرادة السياسية الحقيقية، وخضوع الدولة لحسابات الميليشيا، يبدو لبنان اليوم في مهب العاصفة.
السبيل الوحيد للخروج من هذا النفق ليس عبر صفقات داخلية جديدة، بل عبر العودة إلى الدستور، تطبيق القرارات الدولية، وتحرير القرار السياسي اللبناني من كل هيمنة. وإلا، فإن لبنان لن يُترك فقط على قارعة الاهتمام الدولي، بل على قارعة التاريخ.
نبيل الأيوبي