ما نشهده اليوم في لبنان لم يعد مجرد تناقض سياسي، بل فضيحة موصوفة تحمل توقيع الثنائي الشيعي. فهم لم ينسحبوا من جلسة مجلس الوزراء إلا عندما وصل النقاش إلى خطة الجيش لحصر السلاح، وكأن ما قبلها من نقاشات لا تعنيهم. ثم يخرجون ليصفوا القرار بأنه «أميركي – إسرائيلي» ويتهمون رئيس الحكومة نواف سلام بالعمالة والصهيونية، فيما هم يجلسون معه كل يوم على الطاولة نفسها ويبتزون الحكومة لمصالحهم الخاصة. أي وقاحة أكبر من هذه؟ كيف لمن يتهم شخصاً بالخيانة أن يجلس معه شريكاً في الحكم إلا إذا كان الهدف الحقيقي هو تقويض الدولة وتثبيت سلطة السلاح؟
الرئيس نواف سلام أثبت قدرة عالية على الصمود في وجه ضغوط الثنائي، الذي يحاول بكل غطرسة تحويل الحكومة إلى أداة طيّعة في يده. سلام، بخبرته ورصانته، كشف عجز هذا الثنائي عن تقديم أي رؤية وطنية أو التوافق مع الآخرين. والأدهى أن الطائفة الشيعية التي يتشدّقون بتمثيلها أصبحت ضحية مباشرة لممارساتهم، فهي «جريحة» فعلاً، لكن جراحها لم تأتِ من الخارج بل من الداخل، من حزب الله وسياساته التي ورّطت لبنان في حروب خاسرة منذ 2006، وأدخلته في النزاعات السورية واليمنية والعراقية، فضلاً عن التورط في تهريب المخدرات وغسيل الأموال. كل ذلك دمّر صورة لبنان وضرب اقتصاده وسياحته وماليته، حتى صار اللبناني الذي كان يفاخر العالم بثقافته وحضوره مجرد مواطن يبحث عن أبسط مقومات العيش.
ولا يتوقف المشهد عند هذا الحد، فالثنائي الشيعي لم يترك مناسبة إلا وهدد بالشارع، وبالاحتجاجات، وبالتعطيل الكامل للمؤسسات. هو من عطّل انتخاب رئيس الجمهورية لسنوات، وهو من أسقط حكومات متتالية، وهو من حوّل الإدارات الرسمية والخاصة إلى رهائن بقراراته. وهو نفسه الذي حاصر وسط بيروت بين عامي 2006 و2007، معطلاً الحركة الاقتصادية والتجارية ومحوّلاً قلب العاصمة إلى خيمة ابتزاز مفتوحة. وهو الذي عرقل الاستفادة من مؤتمر باريس 3 وما وفره من دعم مالي دولي، فقط لأن مصلحته كانت تقتضي إسقاط الحكومة الشرعية آنذاك. هذا السلوك نفسه يتكرر اليوم بوقاحة أكبر.
والأسوأ أنهم يلوّحون دوماً بالفوضى إذا طُرح موضوع السلاح غير الشرعي، سلاح لا يمت بصلة لا لتحرير ولا لمقاومة ولا للقدس، بل وُجّه حصراً إلى الداخل: إلى بيروت في 7 أيار 2008، وإلى طرابلس وعكار والبقاع، وإلى كل معارض يجرؤ على رفع صوته. أي مقاومة هذه التي تقمع شعبها قبل أن تواجه عدوها؟ أي مقاومة هذه التي تهاجم جامعات ومدارس ومستشفيات باسم الدفاع عن القدس؟ أي مقاومة هذه التي تهدد اللبناني بالسلاح قبل أن تطلق رصاصة على الاحتلال؟
التناقض الصارخ بين خطاب «المقاومة» وأفعال الثنائي بات مكشوفاً للجميع: فهم يتغنون بالقدس بينما يغرقون بيروت في العتمة، يرفعون شعار الكرامة بينما يذلّون المواطن في طوابير البنزين والخبز والدواء، يدّعون حماية لبنان بينما يهربون الأموال ويضربون علاقاته مع أشقائه العرب والمجتمع الدولي. هذه ليست مقاومة، بل مشروع تسلّط وهيمنة، هدفه إخضاع الداخل لا مواجهة الخارج.
وعند مقارنة التجربة اللبنانية بما جرى في دول أخرى، تتضح الصورة أكثر: فالعراق لم يستطع أن ينهض إلا عندما بدأ يواجه سطوة الميليشيات، وتونس لم تدخل مرحلة الاستقرار إلا بعدما أعادت الاعتبار لسلطة الدولة، وحتى شعوب أميركا اللاتينية دفعت أثماناً باهظة للخلاص من قبضة المجموعات المسلحة والأنظمة الميليشياوية. لبنان ليس استثناءً، بل يمكنه هو الآخر أن يستعيد مكانته إذا تحرر من قبضة السلاح غير الشرعي وأعاد القرار الوطني لمؤسساته.
إن استمرار هذا النهج هو وصفة مؤكدة لانهيار لبنان. فلا إصلاح ولا دولة بظل سلاح غير شرعي يفرض إرادته بالقوة. والخلاص يبدأ بكسر هذه الهيمنة، وإعادة القرار للدولة ومؤسساتها، وإسقاط كل خطاب التخوين والتضليل الذي يمارسه الثنائي. فلبنان أكبر من أن يُختزل بمغامرات حزب وسلاحه، وأسمى من أن يُحكم بالغطرسة والابتزاز.
ومن هنا، لا بد من نداء مباشر: إلى الشعب اللبناني، أن يتوحد حول مشروع الدولة المدنية القوية العادلة، بعيداً عن سطوة الميليشيات، وألا يسمح بأن يُختطف مستقبله مجدداً. وإلى المجتمع الدولي والعربي، أن يقف إلى جانب لبنان في معركته لاستعادة سيادته وقراره الحر، وأن يترجم دعمه بأفعال لا بمجرد بيانات. فلبنان يستحق الحياة، ويستحق أن يعود منارة في المنطقة، لا ساحة رهينة لمغامرات الثنائي وسلاحه.