يشهد لبنان حالة من الجمود السياسي الممزوج بالتجاذب الحاد بين القوى الحاكمة والمعارضة، وسط أداء رسمي باهت يكاد يقتصر على محاولة إدارة الوقت بدل من اتخاذ قرارات جذرية. فالبلد، الغارق في أزمات اقتصادية ومالية منذ سنوات، لا يزال عاجزًا عن تنفيذ الإصلاحات المطلوبة دوليًا، فيما يزداد التراشق الداخلي سخونة مع اقتراب موسم الانتخابات النيابية لعام 2026.
الأداء الرسمي: ترقيع لا تغيير
على المستوى الرسمي، تواصل الحكومة الحالية إدارة الملفات الكبرى بعقلية التجزئة، حيث لا تزال الإصلاحات الهيكلية الموعودة حبرًا على ورق. فباستثناء بعض التعيينات الإدارية التي رُوّج لها على أنها خطوة إصلاحية، فإن الواقع يُظهر أن هذه التعيينات لم تخضع للمسارات الدستورية والمؤسساتية الطبيعية، بل جاءت بآليات محاصصاتية غير شفافة، أثارت تساؤلات حول مدى التزام الدولة بمبدأ تكافؤ الفرص واحترام النصوص القانونية.
وما يزيد من قتامة المشهد هو غياب أي مبادرة حكومية جدية لتقديم مشاريع إصلاح متكاملة إلى البرلمان أو الشركاء الدوليين، في ظل تذرع دائم بانتظار “الغطاء الدولي” أو “الدعم الخارجي”، وهو دعم يبدو مشروطًا أكثر من أي وقت مضى بملف تسليم سلاح حزب الله، ونزع سلاح الأحزاب والمخيمات الفلسطينية. شروط يعرف الجميع أنها غير قابلة للتنفيذ في المدى المنظور، ما يعني عمليًا تأجيلًا مقصودًا لأي محاولة إنقاذ حقيقية.
تهديدات دولية وإسرائيلية: ضغوط متصاعدة
في موازاة الشلل المحلي، بدأت التهديدات الخارجية تأخذ منحى أكثر حدة. فالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، أعادت التأكيد على عزمها فرض عقوبات إضافية على الشخصيات المتورطة في عرقلة الإصلاحات، أو المتدخلة في ملفات تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، خاصة تلك المرتبطة بحزب الله ونفوذه داخل الدولة.
أما التهديد الإسرائيلي، فقد تصاعد بشكل لافت، وسط تقارير استخباراتية تفيد باستعدادات إسرائيلية لشنّ عدوان واسع النطاق في حال حصول أي تصعيد من قبل حزب الله. وقد حمّلت إسرائيل بشكل واضح الدولة اللبنانية مسؤولية أي عمل عسكري قد ينطلق من أراضيها، بحجة أن بيروت لا تفي بالتزاماتها تجاه تنفيذ القرارات الدولية، وعلى رأسها 1701 و1559. هذا التهديد، وإن لم يتحول إلى واقع بعد، يضع لبنان في موقع خطر إقليمي يهدد محيطه ويعزله أكثر عن المجتمع الدولي.
أداء الأحزاب: صراع النفوذ يبدأ مبكرًا
سياسيًا، دخلت القوى الحزبية اللبنانية عمليًا في مرحلة ما قبل الانتخابات، حيث بدأت حملة مبكرة لتحديد الاصطفافات، لكن بأسلوب سلبي تشهيري أكثر من كونه برنامجيًا. يبرز في هذا الإطار “التيار الوطني الحر”، الذي يقود معركة إعلامية وسياسية ضارية مدعومًا بشكل غير مباشر من حزب الله، في محاولة لإعادة تعويم حضوره الشعبي بعدما تراجعت شعبيته منذ انتفاضة 17 تشرين 2019.
وتجدر الإشارة هنا إلى التحوّل اللافت في موقف رئيس الجمهورية الحالي، الذي كانت مواقفه خلال خطاب القسم تُشير إلى نية انتهاج خط وطني مستقل، يلتزم الدستور والقرارات الدولية، إلا أن هذه النبرة تغيّرت فور دخوله قصر بعبدا، حيث أحاط نفسه بمستشارين من حركة أمل وحزب الله، ما أثار تساؤلات واسعة حول استقلالية القرار الرئاسي، ومدى تحوّله إلى طرف ضمن محور سياسي داخلي يُحكم قبضته على القرار السيادي.
الالتزامات الدولية: انفصام داخلي
فيما يتعلق بالتعاطي مع القرارات الدولية، لا يزال لبنان الرسمي يتعامل معها بمنطق الانتقائية. فالحكومة تكرر التزاماتها اللفظية أمام المؤسسات الدولية والدول المانحة، لكن دون خطوات تنفيذية واضحة. القرارات الدولية، وعلى رأسها تلك المتعلقة بسلاح حزب الله وتطبيق القرار 1559، لا تزال تُقابل بمواقف باهتة أو مواربة، فيما يُربط تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية بهذه الملفات، ما يجعل كل المسارات متشابكة ومعلّقة.
خاتمة: لا تغيير بدون قرار
باختصار، يتضح أن لبنان يراوح مكانه، حيث تُستخدم بعض الإجراءات الشكلية كغطاء لتغييب الإصلاحات الجوهرية. الصراع السياسي بات يأخذ شكل تصفية حسابات انتخابية مبكرة، بينما تتراجع فرص التغيير الحقيقي في ظل غياب قرار سيادي مستقل، واستمرار ارتباط الحلول بمواقف القوى المسلحة خارج الدولة. أما المواطن اللبناني، فلا يزال يدفع ثمن الانتظار، في بلدٍ يُؤجل كل شيء إلا الانهيار.